فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى (14)}
ففيه وجهان:
أحدهما: أنه تعالى لما ذكر وعيد من أعرض عن النظر والتأمل في دلائل الله تعالى، أتبعه بالوعد لمن تزكى ويطهر من دنس الشرك وثانيهما: وهو قول الزجاج: تكثر من التقوى لأن معنى الزاكي النامي الكثير، وهذا الوجه معتضد بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون} [المؤمنون: 1-2] أثبت الفلاح للمستجمعين لتلك الخصال وكذلك قوله تعالى في أول البقرة: {وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] وأما الوجه الأول فإنه معتضد بوجهين:
الأول: أنه تعالى لما لم يذكر في الآية ما يجب التزكي عنه علمنا أن المراد هو التزكي عما مر ذكره قبل الآية، وذلك هو الكفر، فعلمنا أن المراد ههنا: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} عن الكفر الذي مر ذكره قبل هذه الآية.
والثاني: أن الاسم المطلق ينصرف إلى المسمى الكامل، وأكمل أنواع التزكية هو تزكية القلب عن ظلمة الكفر فوجب صرف هذا المطلق إليه، ويتأكد هذا التأويل بما روي عن ابن عباس أنه قال معنى: {تزكى} قول: لا إله إلا الله.
أما قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى (15)} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
ذكر المفسرون فيه وجوهاً.
أحدها: قال ابن عباس: ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له.
وأقول: هذا التفسير متعين وذلك لأن مراتب أعمال المكلف ثلاث.
أولها: إزالة العقائد الفاسدة عن القلب.
وثانيها: استحضار معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأسمائه.
وثالثها: الاشتغال بخدمته.
فالمرتبة الأولى: هي المراد بالتزكية في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} [الأعلى: 14].
وثانيها: هي المراد بقوله: {وَذَكَرَ اسم رَبّهِ} فإن الذكر بالقلب ليس إلا المعرفة.
وثالثها: الخدمة وهي المراد بقوله: {فصلى} فإن الصلاة عبارة عن التواضع والخشوع فمن استنار قلبه بمعرفة جلال الله تعالى وكبريائه، لابد وأن يظهر في جوارحه وأعضائه أثر الخضوع والخشوع.
وثانيها: قال قوم من المفسرين قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} يعني من تصدق قبل مروره إلى العيد: {وَذَكَرَ اسم رَبّهِ فصلى} يعني ثم صلى صلاة العيد بعد ذلك مع الإمام.
وهذا قول عكرمة وأبي العالية وابن سيرين وابن عمر وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا التفسير فيه إشكال من وجهين الأول: أن عادة الله تعالى في القرآن تقديم ذكر الصلاة على ذكر الزكاة لا تقديم الزكاة على الصلاة.
والثاني: قال الثعلبي: هذه السورة مكية بالإجماع ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر.
أجاب الواحدي عنه بأنه لا يمتنع أن يقال: لما كان في معلوم الله تعالى أن ذلك سيكون أثنى على من فعل ذلك.
وثالثها: قال مقاتل: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} [الأعلى: 14] أي تصدق من ماله وذكر ربه بالتوحيد في الصلاة فصلى له، والفرق بين هذا الوجه وما قبله أن هذا يتناول الزكاة والصلاة المفروضتين، والوجه الأول ليس كذلك.
ورابعها: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} ليس المراد منه زكاة المال بل زكاة الأعمال أي من تطهر في أعماله من الرياء والتقصير، لأن اللفظ المعتاد أن يقال: في المال زكى ولا يقال تزكى قال تعالى: {وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} [فاطر: 18]، وخامسها: قال ابن عباس: {وَذَكَرَ اسم رَبّهِ} أي كبر في خروجه إلى العيد وصلى صلاة العيد وسادسها: المعنى وذكر اسم ربه في صلاته ولا تكون صلاته كصلاة المنافقين حيث يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً.
المسألة الثانية:
الفقهاء احتجوا بهذه الآية على وجوب تكبيرة الافتتاح، واحتج أبو حنيفة رحمه الله بها على أن تكبيرة الافتتاح ليست من الصلاة، قال: لأن الصلاة معطوفة عليها والعطف يستدعي المغايرة، واحتج أيضًا بهذه الآية على أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه وأجاب أصحابنا بأن تقدير الآية، وصلى فذكر اسم ربه ولا فرق بين أن تقول أكرمتني فزرتني وبين أن تقول زرتني فأكرمتني، ولأبي حنيفة أن يقول: ترك العمل بفاء التعقيب لا يجوز من غير دليل والأولى في الجواب أن يقال: الآية تدل على مدح كل من ذكر اسم الله فصلى عقيبه وليس في الآية بيان أن ذلك الذكر هو تكبيرة الافتتاح.
فلعل المراد به أن من ذكر الله بقلبه وذكر ثوابه وعقابه دعاه ذلك إلى فعل الصلاة، فحينئذ يأتي بالصلاة التي أحد أجزائها التكبير، وحينئذ يندفع الاستدلال.
ثم قال تعالى: {بَلْ تؤثرون الْحَيَاةَ الدنيا (16)}
وفيه قراءتان: قراءة العامة بالتاء ويؤكده حرف أبي، أي بل أنتم تؤثرون عمل الدنيا علي عمل الآخرة.
قال ابن مسعود: إن الدنيا أحضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها، وإن الآخرة لغيب لنا وزويت عنا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل.
وقرأ أبو عمرو: {يؤثرون} بالياء يعني الأشقى.
ثم قال تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وأبقى (17)}
وتمامه أن كل ما كان خيراً وأبقى فهو آثر، فيلزم أن تكون الآخرة آثر من الدنيا وهم كانوا يؤثرون الدنيا، وإنما قلنا: إن الآخرة خير لوجوه:
أحدها: أن الآخرة مشتملة على السعادة الجسمآنية والروحآنية، والدنيا ليست كذلك، فالآخرة خير من الدنيا.
وثانيها: أن الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام، والآخرة ليست كذلك.
وثالثها: أن الدنيا فآنية، والآخرة باقية، والباقي خير من الفاني.
ثم قال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصحف الأولى (18)}
واختلفوا في المشار إليه بلفظ (هذا) منهم من قال: جميع السورة، وذلك لأن السورة مشتملة على التوحيد والنبوة والوعيد على الكفر بالله، والوعد على طاعة الله تعالى.
ومنهم من قال: بل المشار إليه بهذه الإشارة هو من قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} [الأعلى: 14] إشارة إلى تطهير النفس عن كل ما لا ينبغي.
أما القوة النظرية فعن جميع العقائد الفاسدة، وأما في القوة العملية فعن جميع الأخلاق الذمية.
وأما قوله: {وَذَكَرَ اسم رَبّهِ} [الأعلى: 15] فهو إشارة إلى تكميل الروح بمعرفة الله تعالى، وأما قوله: {فصلى} [الأعلى: 15] فهو إشارة إلى تكميل الجوارح وتزيينها بطاعة الله تعالى.
وأما قوله: {بَلْ تؤثرون الحياة الدنيا} [الأعلى: 16] فهو إشارة إلى الزجر عن الالتفات إلى الدنيا.
وأما قوله: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 17] فهو إشارة إلى الترغيب في الآخرة وفي ثواب الله تعالى، وهذه أمور لا يجوز أن تختلف باختلاف الشرائع، فلهذا السبب قال: {إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى} وهذا الوجه كما تأكد بالعقل فالخبر يدل عليه، روى عن أبي ذر أنه قال: قلت هل في الدنيا مما في صحف إبراهيم وموسى؟ فقال: اقرأ يا أبا ذر {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} [الأعلى: 14] وقال آخرون: إن قوله (هذا) إشارة إلى قوله: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} وذلك لأن الإشارة راجعة إلى أقرب المذكورات وذلك هو هذه الآية، وأما قوله: {لَفِى الصحف الأولى} فهو نظير لقوله: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأولين} [الشعراء: 196] وقوله: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13].
{صُحُفِ إبراهيم وموسى (19)}
فيه قولان:
أحدهما: أنه بيان لقوله: {فِى الصحف الأولى} [الأعلى: 18] والثاني: أن المراد أنه مذكور في صحف جميع الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى، روي عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كم أنزل الله من كتاب؟ فقال: «مائة وأربعة كتب، على آدم عشر صحف وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان،» وقيل: إن في صحف إبراهيم: ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى (14)}
{أفلح} في هذه الآية معناه: فاز ببغيته، {وتزكى} معناه: طهر نفسه ونماها إلى الخير.
قال ابن عباس: قال لا إله إلا الله فتطهر من الشرك، وقال الحسن: من كان عمله زاكياً، وقال أبو الأحوص: من رضخ من ماله وزكاه، وقوله: {وذكر اسم ربه} معناه: وحّده وصلى له الصلوات التي فرضت عليه، وتنفل أيضًا بما أمكنه من صلاة وبرّ، وقال أبو سعيد الخدري وابن عمر وابن المسيب: هذه الآية في صبيحة يوم الفطر فتزكى، أدى زكاة الفطر، {وذكر اسم ربه}، هو ذكر الله في طريق المصلى إلى أن يخرج الإمام، والصلاة هي صلاة العيد، وقد روي هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة وكثير من المتأولين: {تزكى}: أدى زكاة ماله، و(صلى) معناه صلى الخمس، ثم أخبر تعالى الناس أنهم يؤثرون {الحياة الدنيا}، فالكفار يؤثرها إيثار كفر يرى أن لا آخرة، والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس إلا من عصم الله.
وقرأ أبو عمرو وحده {يؤثرون} بالياء، وقال: يعني الأشقين، وهي قراءة ابن مسعود والحسن وأبي رجاء والجحدري.
وقرأ الباقون والناس: {تؤثرون} بالتاء على المخاطبة، وفي حرف أبي بن كعب {بل أنتم تؤثرون} وسبب الإيثار حب العاجل والجهل ببقاء الآخرة، وقال عمر: ما في الدنيا في الآخرة إلا كنفخة أرنب، وقوله تعالى: {إن هذا} قال الضحاك: أراد القرآن، وروي أن القرآن انتسخ من {الصحف الأولى} وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: الإشارة إلى معاني السورة، وقال ابن زيد: الإشارة إلى هذين الخبرين (إفلاح من تزكى) وإيثار الناس للدنيا مع فضل الآخرة عليها، وهذا هو الأرجح لقرب المشار إليه بهذا. وقوله تعالى: {لفي الصحف الأولى} أي لم ينسخ هذا قط في شرع من الشرائع فهو في الأولى وفي الأخيرات، ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» أي أنه مما جاءت به الأولى واستمر في الغي.
وقرأ الجمهور: {الصحف} مضمونة الحاء، وروى هارون عن أبي عمرو بسكون الحاء، وهي قراءة الأعمش.
وقرأ أبو رجاء: {إبراهيم} بغير الياء ولا ألف.
وقرأ ابن الزبير {إبراهام} في كل القرآن، وكذلك أبو موسى الأشعري.
وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة {إبراهم} بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن.
وروي أن {صحف إبراهيم} نزلت في أول ليلة من رمضان.
والتوراة في السادسة من رمضان.
والزبور في اثني عشرة منه.
والإنجيل في ثمان عشرة منه.
والقرآن في أربعة عشرة.
نجز تفسير سورة (الأعلى) والحمد لله كثيراً. اهـ.

.قال القرطبي:

{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى (14)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ} أي قد صادف البقاء في الجنة؛ أي من تَطَهَّر من الشرك بإيمان؛ قاله ابن عباس وعطاء وعكرمة.
وقال الحسن والربيع: من كان عمله زاكياً نامِياً.
وقال مَعْمر عن قتادة: {تزكى} قام بعمل صالح.
وعنه وعن عطاء وأبي العالية: نزلت في صدقة الفِطر.
وعن ابن سِيرينَ {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى}.
قال: خرج فصلى بعد ما أدّى.
وقال عكرمة: كان الرجل يقول أقدّم زكاتي بين يدي صلاتي.
فقال سفيان: قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} وروي عن أبي سعيد الخُدْرِيّ وابن عمر: أن ذلك في صدقة الفطر، وصلاة العيد.
وكذلك قال أبو العالية، وقال: إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها، ومن سِقاية الماء.
وروى كَثير بن عبد الله عن أبيه عن جدّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} قال: «أخرج زكاة الفطر»، {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} قال: «صلاة العيد».
وقال ابن عباس والضحاك: {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ} في طريق المصلَّى {فصلى} صلاة العيد.
وقيل: المراد بالآية زكاة الأموال كلها؛ قاله أبو الأحوص وعطاء.
وروى ابن جُرَيج قال: قلت لعطاء: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} للفطر؟ قال: هي للصدقات كلها.
وقيل: هي زكاة الأعمال، لا زكاة الأموال؛ أي تطهر في أعماله من الرياء والتقصير؛ لأن الأكثر أن يقال في المال: زَكَّى، لا تزكى.
وروى جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «{قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} أي من شهد أَنْ لا إله إلاَّ الله، وخَلع الأندادَ، وشهد أني رسولُ الله» وعن ابن عباس {تزكى} قال: لا إله إلا الله.
وروى عنه عطاء قال: نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قال: كان بالمدينة منافق كانت له نخلة بالمدينة، مائلة في دار رجل من الأنصار، إذا هبت الرياح أسقطت البُسْرَ والرطبَ إلى دار الأنصاريّ، فيأكل هو وعياله، فخاصمه المنافق؛ فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى المنافق وهو لا يعلم نفاقه، فقال: «إن أخاك الأنصاريّ ذكر أن بُسْرك ورُطَبك يقع إلى منزله، فيأكل هو وعياله، فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها؟» فقال: أبيع عاجلاً بآجلا لا أفعل.
فذكروا أن عثمان بن عفان أعطاه حائطاً من نخل بدل نخلته؛ ففيه نزلت {قد أفلح من تزكى} ونزلت في المنافق {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى}.
وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
الثانية:
قد ذكرنا القول في زكاة الفِطر في سورة (البقرة) مستوفى.
وقد تقدّم أن هذه السورة مكية؛ في قول الجمهور، ولم يكن بمكة عِيد ولا زكاة فطر.
القشيرِي: ولا يبعد أن يكون أثنى على من يمتثل أمره في صدقة الفِطر وصلاة العيد، فيما يأمر به في المستقبل.
الثالثة: قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} أي ذكر ربه.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: يرد ذكر معاده وموقفه بين يدي الله جل ثناؤه، فعبده وصلَّى له.
وقيل: ذكر اسم ربه بالتكبير في أوّل الصلاة، لأنها لا تنعقد إلا بذكره؛ وهو قوله: الله أكبر: وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة؛ لأن الصلاة معطوفة عليها.
وفيه حجة لمن قال: إن الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء الله عز وجلّ.
وهذه مسألة خلافية بين الفقهاء.
وقد مضى القول في هذا في أوّل سورة (البقرة).
وقيل: هي تكبيرات العيد.
قال الضحاك: {وذكر اسم ربهِ} في طريق المصلَّى {فصلى}؛ أي صلاة العيد.
وقيل: {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ} وهو أن يذكره بقلبه عند صلاته، فيخاف عقابه، ويرجو ثوابه؛ ليكون استيفاؤه لها، وخشوعه فيها، بحسب خوفه ورجائه.
وقيل: هو أن يفتتح أوّل كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم.
{فصلى} أي فصلى وذكر.
ولا فرق بين أن تقول: أكرمتني فزرتني، وبين أن تقول: زرتني فأكرمتني.
قال ابن عباس: هذا في الصلاة المفروضة، وهي الصلوات الخمس.
وقيل: الدعاء؛ أي دعاء الله بحوائج الدنيا والآخرة.
وقيل: صلاة العيد؛ قاله أبو سعيد الخُدرِيّ وابن عمر وغيرهما.
وقد تقدّم.
وقيل: هو أن يتطوّع بصلاةٍ بعد زكاته؛ قاله أبو الأحوص، وهو مقتضى قول عطاء.
ورُوِيَ عن عبد الله قال: من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له.
{بَلْ تؤثرون الْحَيَاةَ الدنيا (16)}
قراءة العامة {بل تؤثرون} بالتاء؛ تصديقه قراءة أبيّ {بل أنتم تؤثرون}.
وقرأ أبو عمرو ونصر بن عاصم {بل يؤثِرون} بالياء على الغيبة؛ تقديره: بل يؤثِرُون الأَشْقون الحياة الدنيا.
وعلى الأوّل فيكون تأويلها بل تؤثرون أيُّها المسلمون الاستكثار من الدنيا، للاستكثار من الثواب.
وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية، فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا علي الآخرة؟ لأن الدنيا حَضَرتْ وعجِلَت لنا طيباتها، وطعامها وشرابها، ولذاتها وبهجتها، والآخرة غُيبت عنا، فأخذنا العاجل، وتركنا الآجل.
وروى ثابت عن أنس قال: كُنَّا مع أبي موسى في مسِير، والناس يتكلمون ويذكرون الدنيا.
قال أبو موسى: يا أنس، إن هؤلاء يكاد أحدهم يَفْرِي الأديم بلسانه فرياً، فتعال فلنذكر ربنا ساعة.
ثم قال: يا أنس، ما ثَبَر الناس! ما بَطَّأَ بهم؟
قلت: الدنيا والشيطان والشهوات.
قال: لا، ولكن عُجِّلتِ الدنيا، وغُيبت الآخرة، أما والله لو عاينوها ما عَدَلوا ولا مَيَّلوا.
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وأبقى (17)} أي والدار الآخرة؛ أي الجنة.
{خَيْرٌ} أي أفضل.
{وأبقى} أي أدوم من الدنيا.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليمّ، فلينظر بِم يرجع» صحيح.
وقد تقدّم.
وقال مالك بن دينار: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يُوْثَر خزف يبقى، على ذهب يفنى.
قال: فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى.
قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى}
قال قتادة وابن زيد: يريد قوله: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى}.
وقالا: تتابعت كتب الله جل ثناؤه كما تسمعون أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا.
وقال الحسن: {إِنّ هذا لفي الصحف الأولى} قال: كُتُبِ الله جل ثناؤه كلها.
الكلبِيّ: {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى} من قوله: {قد أفلح} إلى آخر السورة؛ لحديث أبي ذرّ على ما يأتي.
وروى عِكرمة عن ابن عباس: {إِنّ هذا لفي الصحف الأولى} قال: هذه السورة.
وقال والضحاك: إن هذا القرآن لفي الصحف الأولى؛ أي الكتب الأولى.
{صُحُفِ إبراهيم وموسى} يعني الكتب المنزلة عليهما.
ولم يرد أن هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف، وإنما هو على المعنى؛ أي إن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف.
وروى الآجُرّي من حديث أبي ذرّ قال: «قلت يا رسول الله، فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالاً كلُّها: أيها الملك المتسلِّط المُبتلَى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم، فإني لا أردّها ولو كانت من فم كافر.
وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، يفكر فيها في صنع الله عز وجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب.
وعلى العاقل ألا يكون ظاعناً إلا في ثلاث: تزوّد لمعاد، ومَرمَّة لمعاشٍ، ولذة في غير محرم.
وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شانه، حافظاً للسانه.
ومن عدّ كلامه من عمله قلَّ كلامُه إلاَّ فيما يعينه»
.
قال: قلت يا رسول الله، فما كانت صحف موسى؟ قال: «كانت عِبراً كلُّها: عجِبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح! وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب. وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها! وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل» قال: قلت يا رسول الله، فهل في أيدينا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى، مما أنزل الله عليك؟ قال: «نعم اقرأ يا أبا ذرّ {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى * بَلْ تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خَيْرٌ وأبقى * إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى * صُحُفِ إبراهيم وموسى}» وذكر الحديث. اهـ.